يا جبل القوش، القوش يا جبل

يا جبل القوش، القوش يا جبل

(بقلم نجيب يوسف اسطيفان/ المانيا)

انا في هذا الموضوع لا اريد التطرق الى جغرافية هذا الجبل ولا الى مسوحه الجيولوجية او مدى ارتفاعه عن سطح البحر ولا بتسميته الرسمية. ما يهمني هي العلاقه المصيرية والتاريخية والمعيشية وحيى السيكولوجية بين ابناء بلدتي، القوش وهذا الجبل. اجل هناك الكثير الكثير من الجبال التي هي اشهر واعلى واهم، لكن يبقى جبلنا هو عماد قوتنا وأحد عناصر ديمومة وجودنا. فلا تهمني جبال الهملايا او روكي او الالب او ارارات او طورطوس او غيرها.
كيف ابدأ الكتابة عنك يا جبلنا؟ هل ابدأ يالتحدث عن جناحك الشرقي الذي يحتضن معقلا عريقا للمسيحية والرهبنة، حيث حط النسر التقي الراهب هرمزد رحاله في واديك ونقر مع المؤمنين الاخرين في صخورك صوامع كانت بؤرة اشعاع تنشر روح الايمان بالمسيحية، وبذر هؤلاء المؤمنون الرواد بذورا لتغدو زاداً فكرياً للعديد من رؤسائنا الروحانيين الاقدمين والحاليين. وكم شهد ذلك الموقع احداثاً ذات اهمية في النهوض الروحاني احياناً وذات طابع ماساوي احياناً اخرى. وكم صفحة يحتاج المؤرخ النزيه لتدوين حياة هؤلاء الجنود المجهولون. فكل صخرة من صخورك تحكي قصة وتحوي اثراً لاولائك الروحانيين.
ام هل ابدأ بالتحدث عن جناحك الغربي الذي يخترقه ذالك النهير عند بهندواي والذي ينساب ماؤه بتوئدة، فحمل ويحمل كل الخير لابناء آشور ومن قبلهم ومن بعدهم، كان هذا النهير سببا في خلق مستوطنات بشرية في سسهلك يا جبلنا، كيف نوفي لك فضلك وكنت دائما تقلل او تمنع اذى الاعداء عنا. وكم من مرة استغاث بك بعد الله ابناء بلدتنا في اوقات الشدة والخطر ونادوا بأعلى صوتهم وا جبلاه وا جبلاه. وكم من مرة اخفق بفضلك الغزاة من النيل من ابطالنا فكنت احد اسباب صون كرامتنا وجعلتنا مرفوعي الرأس امام غرمائنا. كنت سخيا كي لا تشعرنا بفضلك علينا وكنت صامتا كي لا تحرجنا لو نحن اخطأنا. وكم من ذوي الشجاعة والفروسية تسلقك لتجنب المهانة بعيدا عن سياط الشرطة وأعين الرقباء او لمقارعة الظلم فبسطت لهم ذراعيك كأم رؤوم وجعلت كهوفك عرينا لهم وصخورك حضونا تحميهم. نحن لانخطئ الوصف عند ما نقول بأنك درعنا وخوذتنا وترسنا. كم اعجبتني حياديتك يا جبلنا تجاه قناعاتنا ومعتقداتنا الفكرية والروحية على مر الزمان. فلم تعر ادنى تحيز لنسطرتنا او لكثلكتنا او لآشوريتنا او كلدانيتنا او بابليتنا. واتمنى ان لا تكون قد سخرت من اجتهاداتنا السياسية او تحزباتنا. وكم كان صبرك جميلا وانت تتحملنا باختلافاتنا ونواقصنا البشرية. استميحك عذرا يا جبلي وانا اسألك عما جرى لقوافل اخوتنا الاثوريين الذين كانوا يتسلقونك ويخترقونك يوميا للقدوم لى بلدتنا. كان منظرهم بلباسهم التقليدي الاصيل وغطاء رأسهم يزيدك بهاء وزينة. لماذا اختفى منظر هؤلاء القوم تماما؟ هل حصل تغير ديموغرافي في المنطقة؟ ام ماذا؟ ليتك يا جبلنا تمكنت من مد يد العون الى اهالي وسكنة القرى الكلدوآشورية في سهلك وبين ظهرانيك لتأمين وديمومة بقائهم في ارض اجدادهم.
اتأملك ليلا وانت ذلك الرقيب اليقظ ولسان حالك يقول اخلدو للنوم الهانئ فانا ها هنا، فيشعر النائم بالطمأنينة طالما شعر انت خلف رأسه كحارس امين. وكم يذكرنك امهاتنا وهن يهدهدن لصغارهن ويحركن المهد كي ينام الاطفال بهدوء. ولا تخلو حكايات جداتنا من ذكرك. وكم ذكرك اجدادنا عند التحدث عن مأثرهم وعن ما وقع لهم من مفاجأت او غرائب. وكم يزيد مأتمنا حزناً وتستمد لمسة عاطفية ونساءنا يذكرنك يا جبل وهن يرثين فلذات اكبادهن الذين سفحت دمائهم على صخورك وانت شاهد امين على تضحيات هؤلاء وعلى ايمانهم بقضية ما. وكثيرون من هولاء الرافضين للمذلة تسلقك لاهثا ولم يعد. كم شعرنا بالزهو والمتعة انا وأصدقائي في طفولتنا ونحن واقفين على احدى قممك وينبسط امامنا السهل الفسيح فنحس باننا نحن الاقوى ونحن الاعلى ونحن الاكبر من حجمنا. كم وكم يشعر المغني الشعبي او النافخ في الناي في بلدتنا بنشوة وهو يسمع صدى صوته ياتيه رخيماً فيزيد جودة في الغناء. نلجأ اليك ونحن في حالة الكرب او الضيق النفسي فتوفر لنا جوا للتأمل والاسترخاء. وكم من صياد استثمرك لممارسة هوايته واثبات مهارته فاوجدت التنافس في اقتناء بندقية الصيد او في اختبار نوعية الشباك. كان هؤلاء الصيادين يدفئون مجالسهم باحاديثهم عن تجاربهم في الصيد. كيف نستطيع تجاهل دورك وكنت ميدانا تدرب فيه شبابنا على فنون القتال فاستمدوا منك معنوية واضافوا لشجاعتهم شجاعة وكنت عاملا مهما في صياغة نمط شخصياتهم.
كم يعجبني منظر قممك وهي تقبل السحب ووديانك وهي تحتضن السحاب وكم انت جذاب وانا اراك متوجا بالثلج احياناً. كيف اصف سحر وديانك على اهلنا يا جبلنا؟ فعن كل واحد من هذه الوديان رويت قصصاً وحكايات وقعت فعلا او كانت من ابتكارات الخيال بحيث تصل قسما منها الى الاسطورة التي تحكي بطولات خارقة. لم تكن هذه الاساطير خالية من الفائدة في شحذ روح الايثار والفروسية وفي صياغة وخلق انماط شخصية تتمتع بالبأس وبسلوكية نبيلة. احس كأن تأثيرك علينا يسري بكياننا كلمسة سحرية.
يا جبلنا يا جبلنا ليس لنا مناسبات او طقوسا للاحتفاء بك لكن ستكون دوما ماثلا امام عيوننا وحاضرا في وجودنا مهما ابتعدنا عنك ومهما تشتتنا وتشرذمنا في بقاع الارض. ستستمر صخور سفحك تعكس صوت دقات نواقيس كنائسنا كصدى خالدا وستبقى ابدا الاناشيد والترانيم الصادره من افواه قساوستنا وشمامستنا تصدح في وديانك. ليت لي يا جبلي ذراعين طويلتين تمكناني من معانقتك وتقبيلك ايفاء للايجابيات التي وفرتها لأهلنا ولبلدتنا.
لا بد لي ان اتطرق لتاريخ بلدتنا القريب نستيا، اتحدث هنا عن العديدين من رافضي الطغيان والاستبداد والذين ارتبط مصيرهم وارتبطت قضيتهم بك يا جبلنا. تسلقك هؤلاء الرجال والفتية ليس لمجرد اتخاذك ملاذا ومآوى بل لتوظيفك كموقع للاعداد والوثوب لمقارعة الطغيان. فوفرت كهوفك راحة لهم وقدمت ينابيعك ماء عذباً يطفئ ظمأهم وامنت صخورك الصلدة وجرفك واخاديدك حماية لهم وهم يقاتلون اعدائهم. ولكي اكون وفيا لا بد لي ان ابرز دور ثائر الستينيات من القرن الماضي وحتى اواخره تقريبا، عذرا وانا استخدم لغة التورية والرمزية. تسلقك الفهد مع رفاقه حاملا آمالاً وثقة وعنفواناً وايماناً بالقضية ولا افضل قول بالايديولوجية. فبالرغم من تقلبات الزمن ورغم تذبذب وتراجع العديد من رفاقه وبالرغم التحديات الصعبة والمخاطر الجدية وتعقيدات المنازله وشراسة العدو بقى الفهد الثائر صامداً لا يتراجع وصلدا لايلين وبقى اميناً مع قناعته وعصيا على اعدائه. بقى واعداً للعب دوره دون ان ينتظر مكافأة او يستجدي مديحاً. بقى التواضع عنده اقوى من سحر الغرور ومغريات التبجح. اقولها بكل ثقل الكلمة وصدقها كان الفهد ممتلئا تفاؤلا ويجعل القانطين امامه خجلين. وكان يشع شجاعة بحيث يستخدمها من هبطت معنوياته، كان شديد البأس بحيث ينهزم من امامه الخذلان، كانت اطلالته البهية تبعث الامل فيمن فقده وتشحذ عزيمة من خارت عزائمه. كان صادقاً بالايفاء بالالتزامات والثوابت التي تعهد بها، وهذه الخصال لا يتمتع بها الا القلائل المتميزين.
كان الفهد مترفعا عنن الذاتية وعن التعصب للاثنية او المذهبية او المناطقية والعشائرية. كانت سعة قلبه تسبوعب الجميع بتناقظاتهم وتنوع سايكولوجياتهم وكان يحمل على كتفيه مسؤوليات جسام وهموما ثقال. كان هذا الانسان الشامخ يغلب العقلانية والنظرة البعيدة على العاطفة والنزوات والنظرة القصيرة. ولم ينجر يوما ما الى معركة جانبية بقصد الانتقام ممن اساؤوا الى قضيته واليه. حقاً حقاً لم يستغل ذلك الفهد كهوفك ووديانك مجرد اماكن للراحة او لمقاتلة الاعداء، بل اتخذ كل موقع صالة ومنبرا ومحفلا لمناقشة امور في غاية الاهمية والجدية والتي خصت الوطن وصياغة مستقبله السياسي. وكم اتمنى وبحسرة لان تتاح لي الفرصة للوقوف امام احجار لحدك يا ايها الفهد الثائر عزة و مفخرة الجميع... توما توماس... وادع شفاهي تتلفظ كلمات الفخر والثناء والاعجاب بشخصك. عذراً ستكون الكلمات عاجزة عن التعبير في وصف بطولاتك وانجازاتك. ياعزيزي ابا جوزيف سوف لن تكون كالبذرة التي تسقط على صخرة فتهلك وتفنى بل ستكون كالبذرة التي تقع في ترية طيبة خصبة فتعطي نتاجاً وفيراً وحميداً.
ويا ليت لو سنحت لي الفرصة لأقف امام لحود شهداء الجبال من اهلنا، فاقف بوقار واجلال امام لحدك ايها الشاب البطل عزيزي الشهيد رافد اسحاق وامام لحد الشاب اليافع بطرس جركو والشهيد هرمز بوكا واونير اسطيفانا والاخرين من شهداء جبالنا. >>

الرد او التعليق

استاذي العزيز نجيب يوسف اسطيفان
تردد صدى كلماتك في قلبي فابتهج مترنما ً، مع ما سطره القلم ، من معان ٍ تكاد من الحسن ان تنطق ، وعلى يد الصائغ الحكيم ، وهي تصيب هدفها في الصميم . اطربني وهو ينظر من منفاه البعيد الى جبلنا استاذي النجيب ، الذي خبرته في اواخر الستينات وانا تلميذه البسيط ، الذي يحسن الاستماع اليه ، لا فقط الى مادته باللغة الانكليزية التي اجاد فيها وزاد ، بل كل ما تشعب من احاديثه ، وما عبرت عنه نظراته الباسمة ، وهدوءه الملائكي . صقيلا كان معدنه ، موهوبا كان بعده ، بسيطا كان شخصه ، وبهية كانت طلعته .
في كل كلمة قالها في جبلنا الرهيب ، الصامت ، الوقور ، ازددت فخرا بتراثنا ، بروحانيينا ، ورجالنا ، فكان ذلك الباسط جناحيه كالنسر ، المحتضن بحنان تلك البيوت المبنية جيل بعد جيل وعلى امتداد آلاف السنين ، منذ ايام نينوى ، وامبراطوريتها العتيدة ، تلك الصخور كانت وما زالت ملاذهم ، مبعث فرحهم ، وبؤرة تأملهم . كم من المرات جلس شيوخ من تلك البلدة ، صامتين امام هيبة الجبل ، تاركين له الحديث عن مآثر من اقامو في سفحه ، ومن قطعوه لاهثي الانفاس ، هربا من البطش . كم يلذ لي ان اقف على قمته ، اجول بنظري حواليه ، اقف بمهابة وشموخ ، اشبع جوعي الى ذلك السهل الواسع ، وعلى مدى البصر ، والتي تلوح عبره مدينة تعانق سحبها وابخرتها طبقات السماء ( ومن تلك الارض خرج آشور فبنى نينوى وساحات المدينة وكالح . وراسن بين نينوى وكالح وهي المدينة العظيمة . تكوين 10 / 11 ، 12 ) لطالما امتد صفاء الافق ، عندما تعلو فضاء القوش سماء لازوردية ، لتظهر المدينة العظيمة من على الجبل اكثر وضوحا ، ومعها تلك القرى والبلدات المتناثرة ، كأنها العِقـْد الذي تناثرت فصوصه فوق السهل المترامي ، وفيها تحيا كل مكونات شعب بيث نهرين : من الكلدان والاشوريين والايزيديين والاكراد والعرب .
كلماتك المنتقاة ثمينة وذات عمق ودلالة ، عن ذلك الفهد الذي احسنت في ابرازه مرتبطا بذلك الجبل ، جلية هي الحقيقة التي تصور الراحل توما توماس بانه فهد القوش ونسر الجبال ، انه رمز النضال وقدوة المناضلين . ستحتذي اجيال بذلك الانسان النموذج ، في عطائه وتضحياته وروحه الانسانية ، التي قلما يجود الزمن بمثلها ، انه ذلك الخزين من الحب الذي لا ينضب للجميع .

في مقبرة الكلدان بدهوك ، يرقد ابن القوش توما توماس

كم تعجبني كتاباتك يا استاذي الجليل ، فكل ما نشرته حتى الان احتفظت به رغم محدوديته ، املي ان تتواصل في اعطائنا من ذلك التـِبر المسبوك ، نحن بحاجة الى دروسك، وبحاجة الى تلك المبادئ السامية التي تشربت في دمك ، انا اعرف بان الفاشيين ومن ابتلى بهم العراق ، لم يعطك الفرصة لتوصل افكارك الى الناس ، والان في اقامتك بالمانيا تمتلك حريتك ، فانطلق بخيالك الخصب ، وما تربيت عليه ، من قيم الحرية ومبعث السعادة ، هيا انطلق لتعطنا ما هو جميل وخالد ، من تراثنا وحضارتنا ، ودمت بخير وسلام .
مع تحيات تلميذك
نبيل يونس دمان
اميركا في

عاشت ايدك

» سفرة ترفيهية للطلاب دورة لاهوتية في القوش لابرشية القوش
» LINDA GEORGEاغنية القوش ياشمي القوش يادمي
» اعلان دي جي اوفير بلو في القوش
» مناضل تومكا القوش
» نورتنا احلى رجه بالمنتدى القوش